الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
.تفسير الآية رقم (21): {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)}{وَقَالَ الذي اشتراه مِن مّصْرَ} وهو العزيز الذي كان على خزانته واسمُه قطفيرُ أو إطفير، وبيانُ كونِه من مصرَ لتربية ما يفرّع عليه من الأمور مع الإشعار بكونه غيرَ من اشتراه من الملتقطين بما ذكر من الثمن البخس، وكان الملكَ يومئذ الريانُ بنُ الوليد العمليقي ومات في حياة يوسفَ عليه السلام بعد أن آمن به فملَك بعده قابوسُ بنُ مصعب فدعاه إلى الإسلام فأبى، وقيل: كان الملكُ في أيامه فرعونَ موسى عليه السلام عاش أربعَمائة سنةٍ لقوله عز وجل: {وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات} وقيل: فرعونُ موسى من أولاد فرعونِ يوسف، والآية من قبيل خطاب الأولادِ بأحوال الآباء، واختلف في مقدار ما اشتراه به العزيز فقيل: بعشرين ديناراً وزوجَيْ نعل وثوبين أبيضين. وقيل: أدخلوه في السوق يعرِضونه فترافعوا في ثمنه حتى بلغ ثمنُه وزنَه مِسْكاً ووزنَه حريراً فاشتراه قطفيرُ بذلك المبلغ وكان سنه إذ ذاك سبعَ عشرةَ سنة وأقام في منزله مع ما مر عليه من مدة لبثه في السجن ثلاثَ عشرةَ سنةً واستوزره الريانُ وهو ابن ثلاثين سنة وآتاه الله العلم والحكمة وهو ابن ثلاثٍ وثلاثين سنة وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة {لاِمْرَأَتِهِ} راعيل أو زليخا، وقيل: اسمُها هو الأول والثاني لقبُها واللامُ متعلقةٌ بقال لا باشتراه {أَكْرِمِى مَثْوَاهُ} اجعلي محلَّ إقامتِه كريماً مرضياً والمعنى أحسني تعهّده {عسى أَن يَنفَعَنَا} في ضِياعنا وأموالِنا ونستظهر به في مصالحنا {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} أي نتبنّاه وكان ذلك لِما تفرّس فيه من مخايل الرشد والنجابة، ولذلك قيل: أفرسُ الناسِ ثلاثةٌ عزيزُ مصرَ وابنةُ شعيبِ التي قالت: {إِحْدَاهُمَا ياأبت استأجره} وأبو بكر حين استخلف عمرَ رضي الله عنهما.{وكذلك} نُصب على المصدرية وذلك إشارةٌ إلى ما يفهم من كلام العزيزِ، وما فيه من معنى البُعد لتفخيمه أي مثلَ ذلك التمكينِ البديع {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الارض} أي جعلنا له فيها مكاناً، يقال: مكّنه فيه أي أثبته فيه ومكّن له فيه، أي جعل له فيه مكاناً، ولتقاربهما وتلازُمهما يُستعمل كلٌّ منهما في محل الآخر، قال عز وجل: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مكناهم فِي الارض مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ} أي ما لم نمكنْكم فيها أو مكنّا لهم في الأرض الخ، والمعنى كما جعلنا له مثوى كريماً في منزل العزيزِ أو مكاناً علياً في قبله حتى أمرَ امرأتَه دون سائر حواشيه بإكرام مثواه جعلنا له مكانةً رفيعة في أرض مصر، ولعله عبارةٌ عن جعله وجيهاً بين أهلها ومحبباً في قلوبهم كافة كما في قلب العزيزِ لأنه الذي يؤدّي إلى الغاية المذكورة في قوله تعالى: {وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاحاديث} أي نوفقه لتعبير بعضِ المنامات التي عُمدتُها رؤيا الملِك وصاحبَي السجنِ لقوله تعالى: {ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى} سواءٌ جعلناه معطوفاً على غاية مقدرة ينساق إليها الكلامُ ويستدعيها النظامُ كأنه قيل: ومثلَ ذلك التمكينِ مكنّا ليوسف في الأرض وجعلنا قلوبَ أهلِها كافة مجالَ محبتِه ليترتب عليه ما ترتب مما جرى بينه وبين امرأةِ العزيز ولنعلمه بعضَ تأويل الأحاديثِ وهو تأويلُ الرؤيا المذكورة فيؤدّي ذلك إلى الرياسة العُظمى، ولعل ترك المعطوفِ عليه للإشعار بعدم كونه مراداً بالذات أو جعلناه علةً لمعلل محذوفٍ كأنه قيل: ولهذه الحكمةِ البالغةِ فعلنا ذلك التمكينَ دون غيرها مما ليس له عاقبةٌ حميدة. هذا ولا يخفى عليك أن الذي عليه تدور هذه الأمورُ إنما هو التمكينُ في جانب العزيز.وأما التمكينُ في جانب الناسِ كافةً فتأديتُه إلى ذلك إنما هي باعتبار اشتمالِه على ذلك التمكينِ فإذن الحق أن يكون ذلك إشارةً إلى مصدر قوله تعالى: {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} على أن يكون هو عبارةً عن التمكين في قلب العزيزِ أو في منزله، وكونُ ذلك تمكيناً في الإرض بملابسة أنه عزيزٌ فيها لا عن تمكين آخرَ يُشبه به كما مر في قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا} من أن ذلك إشارةٌ إلى مصدر الفعل المذكورِ بعده لا إلى جعل آخرَ يُقصد تشبيهُ هذا الجعْل به فالكاف مقحم للدلالة على فخامة شأن المشار إليه إقحاماً لا يكاد يترك في لغة العرب ولا في غيرها.ومن ذلك قولُهم: مثلُك لا يبخل، وهكذا ينبغي أن يُحقق المقامُ، وأما التمكينُ بمعنى جعلِه مالكاً يتصرف في أرض مصرَ بالأمر والنهي فهو من آثار ذلك التعليم ونتائجِه المتفرِّعةِ كما عرفته لا من مباديه المؤديةِ إليه، فلا سبيل إلى جعله غايةً له ولم يُعهد منه عليه السلام في تضاعيف قضاياه العملُ بموجب المناماتِ المنبّهة على الحوادث قبل وقوعِها عهداً مصححاً لجعله غايةً لولايته، وما وقع من التدارك في أمر السنين فإنما هو عملٌ بموجب الرؤيا السابقةِ المعهودة اللهم إلا أن يراد بتعليم تأويلِ الأحاديث ما سبق من تفهيم غوامضِ أسرارِ الكتبِ الإلهية ودقائقِ سننِ الأنبياء عليهم السلام فيكون المعنى حينئذ مكنا له أرضَ مصر ليتصرف فيها بالعدل ولنعلمه معانيَ كتب الله تعالى وأحكامَها ودقائقَ سنن الأنبياء عليهم السلام فيقضي بها فيما بين أهلها، والتعليمُ الإجماليُّ لتلك المعاني والأحكام وإن كان غيرَ متأخرٍ عن تمكنه بذلك المعنى ألا أن تعليمَ كلِّ معنى شخصيَ يتفق في ضمن الحوادثِ والإرشادِ إلى الحق في كل نازلةٍ من النوازل متأخرٍ عن ذلك صالحٍ لأن يكون غاية له {والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ} لا يستعصى عليه أمرٌ ولا يمانعه شيءٌ بل إنما أمرُه لشيء إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكونُ فيدخل في ذلك شؤونُه المتعلقةُ بيوسف دخولاً أولياً، أو متولَ على أمر يوسفَ لا يكِله إلى غيره وقد أريد به من الفتنة ما أريد مرة غِبَّ مرة فلم يكن إلا ما أراد الله له من العاقبة الحميدة {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أن الأمرَ كذلك فيأتون ويذرون زعماً منهم أن لهم من الأمر شيئاً وأنى لهم ذلك، وإن الأمرَ كلَّه لله عز وجل، أو لا يعلمون لطائفَ صنعِه وخفايا فضله..تفسير الآية رقم (22): {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)}{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أي منتهى اشتدادِ جسمه وقوتِه وهو سنُّ الوقوف ما بين الثلاثين إلى الأربعين، وقيل: سنُّ الشباب ومبدأ بلوغِ الحُلُم والأولُ هو الأظهرُ لقوله تعالى: {اتَيْنَاهُ حُكْمًا} حِكمةً وهو العلم المؤيَّدُ بالعمل أو حكماً بين الناس وفقهاً أو نبوة {وَعِلْماً} أي تفقهاً في الدين، وتنكيرُهما للتفخيم أي حكماً وعلماً لا يُكتنه كُنهُهما ولا يقادَرُ قدرُهما فهما ما آتاه الله تعالى عند تكاملِ قُواه سواءٌ كانا عبارةً عن النبوة والحُكم بين الناس أو غيرِهما، كيف لا وقد جُعل إيتاؤهما جزاءً لعمله عليه السلام حيث قيل: {وكذلك} أي مثلَ الجزاءِ العجيب {نَجْزِى المحسنين} أي كلَّ من يُحسِن في عمله فيجب أن يكون ذلك بعد انقضاءِ أعمالِه الحسنةِ التي من جملتها معاناةُ الأحزان والشدائدِ، وقد فُسّر العلمُ بعلم تأويلِ الأحاديث، ولا صحةَ له إلا أن يُخَصَّ بعلم تأويلِ رؤيا الملِك فإن ذلك حيث كان عند تناهي أيامِ البلاءِ صحّ أن يُعدَّ إيتاؤُه من جملة الجزاء، وأما رؤيا صاحبَي السجن فقد لبث عليه السلام بعد تعبيرِها في السجن بضعَ سنين. وفي تعليق الجزاءِ المذكورِ بالمحسنين إشعارٌ بعلّية الإحسان له وتنبيهٌ على أنه سبحانه إنما آتاه ما آتاه لكونه محسناً في أعماله متّقياً في عنفوان أمرِه {هَلْ جَزَاء الإحسان إِلاَّ الإحسان}.تفسير الآية رقم (23): {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)}{وَرَاوَدَتْهُ التي هُوَ فِي بَيْتِهَا} رجوعٌ إلى شرح ما جرى عليه في منزل العزيزِ بعد ما أمر امرأتَه بإكرام مثواه. وقوله تعالى: {وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} إلى هنا اعتراضٌ جيء به أُنموذجاً للقصة ليعلم السامعُ من أول الأمر أن ما لقِيه عليه السلام من الفتن التي ستحكى بتفاصيلها له غايةٌ جميلةٌ وعاقبةٌ حميدةٌ وأنه عليه السلام محسِنٌ في جميع أعمالِه لم يصدُر عنه في حالتي السراءِ والضراءِ ما يُخِلُّ بنزاهته، ولا يخفى أن مدارَ حسنِ التخلصِ إلى هذا الاعتراضِ قبل تمام الآيةِ الكريمةِ إنما هو التمكينُ البالغُ المفهومُ من كلام العزيز، فإدراجُ الإنجاءِ السابق تحت الإشارةِ بذلك في قوله تعالى: {وكذلك مَكَّنَّا} كما فعله الجمهورُ ناءٍ من التقريب فتأملْ. والمراودةُ المطالبةً من راد يرود إذا جاء وذهب لطلب شيءٍ ومنه الرائدُ لطالب الماءِ والكلأ، وهي مفاعلةٌ من واحد نحوُ مطالبةِ الدائنِ ومماطلةِ المديونِ ومداواةِ الطبيب ونظائِرها مما يكون من أحد الجانبين الفعلُ ومن الآخر سببُه فإن هذه الأفعالَ وإن كانت صادرةً عن أحد الجانبين لكن لما كانت أسبابُها صادرةً عن الجانب الآخر جُعلت كأنها صادرةٌ عنهما وهذا بابٌ لطيفُ المسلك مبنيٌّ على اعتبار دقيقٍ، تحقيقُه أن سببَ الشيء يقام مُقامَه ويطلق عليه اسمُه كما في قولهم: كما تدين تدان أي كما تجزي تجزى، فإن فعل البادي وإن لم يكن جزاءً لكنه لكونه سبباً للجزاء أُطلق عليه اسمُه وكذلك إرادةُ القيامِ إلى الصلاة وإرادةُ قراءةِ القرآنِ حيث كانتا سبباً للقيام والقراءة عُبّر عنهما بهما فقيل: {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا} {فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان} وهذه قاعدةٌ مطردةٌ مستمرة، ولمّا كانت أسبابُ الأفعالِ المذكورة فيما نحن فيه صادرةً عن الجانب المقابلِ لجانب فاعلِها فإن مطالبةَ الدائنِ للمماطلة التي هي من جانب الغريم وهي منه للمطالبة التي هي من جانب الدائنِ وكذا مداواةُ الطبيب للمرض الذي هو من جانب المريض وكذلك مراودتُها فيما نحن فيه لجمال يوسفَ عليه السلام، نُزّل صدورُها عن محالها بمنزلة صدور مسبباتِها التي هي تلك الأفعالُ فبُني الصيغةُ على ذلك وروعيَ جانبُ الحقيقةِ بأن أُسند الفعلُ إلى الفاعل وأُوقع على صاحب السبب فتأملِ، ويجوز أن يراد بصيغة المغالبةِ مجردُ المبالغة، وقيل: الصيغةُ على بابها بمعنى أنها طَلبت منه الفعلَ وهو منها التركَ، ويجوز أن يكون من الرُوَيد وهو الرفقُ والتحمّلُ، وتعديتُها بعن لتضمينها معنى المخادعة فالمعنى خادعته.{عَن نَّفْسِهِ} أي فعلت ما يفعل المخادِع لصاحبه عن شيء لا يريد إخراجَه من يده وهو يحتال أن يأخذه منه وهي عبارةٌ عن التمحّل في مواقعته إياها، والعدولُ عن التصريح باسمها للمحافظة على السر أو للاستهجان بذكره، وإيرادُ الموصول لتقرير المراودةِ فإن كونَه في بيتها مما يدعو إلى ذلك، قيل لواحدةٍ: ما حملك على ما أنت عليه مما لا خيرَ فيه؟ قالت: قربُ الوساد وطولُ السواد، ولإظهار كمالِ نزاهته عليه السلام فإن عدمَ ميلِه إليها مع دوام مشاهدتِه لمحاسنها واستعصاءه عليها مع كونه تحت ملَكتِها ينادي بكونه عليه السلام في أعلى معارج العفة والنزاهة {وَغَلَّقَتِ الابواب} قيل: كانت سبعةً ولذلك جاء الفعل بصيغة التفعيل دون الإفعال، وقيل: للمبالغة في الإيثاق والإحكام {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} قرئ بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء وبناؤه كبناء أينَ وعيط، و{هيتِ} كجَيرِ و{هَيتُ} كحيث اسم فعل معناه أَقبلْ وبادر، واللام للبيان أي لك أقول هذا كاللام في هلم لك وقرئ {هِئتُ لك} على صيغة الفعل بمعنى تهيأتُ، يقال: هاء يهييءُ كجاء يجيء إذا تهيأ و{هُيِّئْتُ لك} واللام صلة للفعل {قَالَ مَعَاذَ الله} أي أعوذ بالله مَعاذاً مما تدعينني إليه وهذا اجتنابٌ منه على أتم الوجوه وإشارةٌ إلى التعليل بأنه منكَرٌ هائلٌ يجب أن يُعاذ بالله تعالى للخلاص منه وما ذاك إلا لأنه عليه السلام قد شاهده بما أراه الله تعالى من البرهان النيّر على ما هو عليه في حد ذاتِه من غاية القُبح ونهايةِ السوء، وقولُه عز وجل: {إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَ} تعليلٌ للامتناع ببعض الأسباب الخارجيةِ مما عسى يكون مؤثراً عندها وداعياً لها إلى اعتباره بعد التنبيهِ على سببه الذاتي الذي لا تكاد تقبله لما سوّلتْه لها نفسُها، والضميرُ للشأن ومدارُ وضعه موضعَه ادعاءُ شهرتِه المُغْنيةِ عن ذكره، وفائدةُ تصدير الجملةِ به الإيذانُ بفخامة مضمونها مع ما فيه من زيادة تقريرِه في الذهن، فإن الضميرَ لا يفهم منه من أول الأمر إلا شأنٌ مبهمٌ له خطرٌ فيبقى الذهنُ مترقباً لما يعقُبه فيتمكن عند ورودِه له فضلُ تمكّنٍ، فكأنه قيل: إن الشأنَ الخطيرَ هذا وهو ربي أي سيدي العزيزُ أحسنَ مثواي أي أحسن تعهّدي حيث أمرك بإكرامي فكيف يمكن أن أُسيء إليه بالخيانة في حَرَمه وفيه إرشادٌ لها إلى رعاية حقِّ العزيزِ بألطف وجهٍ، وقيل: الضميرُ لله عز وجل وربي خبرُ إن وأحسن مثواي خبرٌ ثانٍ أو هو الخبرُ والأولُ بدلٌ من الضمير، والمعنى أن الحالَ هكذا فكيف أعصيه بارتكاب تلك الفاحشةِ الكبيرةِ وفيه تحذيرٌ لها من عقاب الله عز وجل، وعلى التقديرين ففي الاقتصار على ذكر هذه الحالةِ من غير تعرّضٍ لاقتضائها الامتناعَ عما دعته إليه إيذانٌ بأن هذه المرتبةَ من البيان كافيةٌ في الدلالة على استحالته وكونه مما لا يدخل تحت الوقوع أصلاً وقوله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} تعليلٌ للامتناع المذكورِ غِبَّ تعليل، والفلاحُ الظفرُ وقيل: البقاءُ في الخير ومعنى أفلح دخل فيه كأصبح وأخواتِه، والمرادُ بالظالم كلُّ من ظلم كائناً من كان فيدخل في ذلك المجازون للإحسان بالإساءة والعصاةُ لأمر الله تعالى دخولاً أولياً، وقيل: الزناةُ لأنهم ظالمون لأنفسهم وللمَزْنيِّ بأهله..تفسير الآية رقم (24): {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)}{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} بمخالطته إذِ الهمُّ لا يتعلق بالأعيان أي قصدتْها وعزمت عليها عزماً جازماً لا يَلويها عنه صارفٌ بعد ما باشرت من مباديها وفعلت ما فعلت من المراودة وتغليقِ الأبواب ودعوتِه عليه السلام إلى نفسها بقولها: هيتَ لك، ولعلها تصدّت هنالك لأفعال أُخَرَ من بسط يدِها إليه وقصدِ المعانقة وغير ذلك مما يَضْطره عليه السلام إلى الهرب نحوَ الباب، والتأكيدُ لدفع ما عسى يُتوهم من احتمال إقلاعِها عما كانت عليه بما في مقالته عليه السلام من الزواجر {وَهَمَّ بِهَا} بمخالطتها أي مال إليها بمقتضى الطبيعةِ البشرية وشهوةِ الشباب وكونه ميلاً جبلياً لا يكاد يدخل تحت التكليفِ لا أنه قصدها قصداً اختيارياً، ألا يُرى إلى ما سبق من استعصامه المُنْبىءِ عن كمال كراهيتِه له ونفرتِه عنه وحُكمه بعدم إفلاح الظالمين وهل هو إلا تسجيلٌ باستحالة صدور الهمِّ منه عليه السلام تسجيلاً محكماً وأنه عبر عنه بالهمّ لمجرد وقوعِه في صحبة همِّها في الذكرِ بطريق المشاكلة لا لشَبَهه به كما قيل، ولقد أشير إلى تباينهما حيث لم يُلَزّا في قَرن واحد من التعبير بأن قيل: ولقد همّا بالمخالطة أو همّ كلٌّ منهما بالآخر، وصُدّر الأولُ بما يقرر وجودَه من التوكيد القسمي وعُقّب الثاني بما يعفو أثرَه من قوله عز وجل: {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ} أي حجتَه الباهرةَ الدالة على كمال قبحِ الزنى وسوءِ سبيله، والمرادُ برؤيته لها كمالُ إيقانِه بها ومشاهدتِه لها مشاهدةً واصلة إلى مرتبة عينِ اليقين الذي تتجلى هناك حقائقُ الأشياء بصورها الحقيقيةِ وتنخلع عن صورها المستعارة التي بها تظهر في هذه النشأة على ما نطق به قولُه عليه السلام: «حُفّت الجنةُ بالمكاره وحفت النار بالشهوات» وكأنه عليه السلام قد شاهد الزنى بموجب ذلك البرهانِ النيّر على ما هو عليه في حد ذاتِه أقبحَ ما يكون وأوجبَ ما يجب أن يُحذر منه ولذلك فعل ما فعل من الاستعصام والحُكمِ بعدم إفلاحِ من يرتكبه، وجوابُ لولا محذوفٌ يدل عليه الكلام أي لولا مشاهدتُه برهانَ ربه في شأن الزنى لجَرى على موجب ميلِه الجِبليِّ ولكنه حيث كان مشاهداً له من قبلُ استمر على ما هو عليه من قضية البرهان، وفائدةُ هذه الشرطيةِ بيانُ أن امتناعَه عليه السلام لم يكن لعدم مساعدةٍ من جهة الطبيعة بل لمحض العفةِ والنزاهة مع وفور الدواعي الداخلية وترتبِ المقدّمات الخارجيةِ الموجبةِ لظهور الأحكام الطبيعية.هذا وقد نص أئمةُ الصناعة على أن لولا في أمثال هذه المواقعِ جارٍ من حيث المعنى لا من حيث الصيغةُ مَجرى التقييدِ للحُكم المطلقِ كما في مثل قوله تعالى: {إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءالِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا}فلا يتحقق هناك همٌّ أصلاً. وقد جوز أن يكون {وهم بها} جوابَ لولا جرياً على قاعدة الكوفيين في جواز التقديم فالهمُّ حينئذ على معناه الحقيقي، فالمعنى لولا أنه قد شاهد برهانَ ربه لهمَّ بها كما همت به ولكن حيث انتفى عدم المشاهدة بدليل استعصامِه وما يتفرع عليه انتفى الهمُّ رأساً، هذا وقد فُسّر همُّه عليه السلام بأنه عليه السلام حلّ الهَمَيان وجلس مجلسَ الخِتان وبأنه حل تِكّة سراويلِه وقعد بين شُعَبها، ورؤيتُه للبرهان بأنه سمع صوتاً: إياك وإياها فلم يكترثْ ثم وثم إلى أن تمثّل له يعقوبُ عليه السلام عاضًّا على أنملته وقيل: ضرب على صدره فخرجت شهوتُه من أنامله، وقيل: بدت كفٌّ فيما بينهما ليس فيها عضُدٌ ولا مِعصمٌ مكتوبٌ فيها: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين * كِرَاماً كاتبين} فلم ينصرف، ثم رأى فيها: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} فلم ينتهِ ثم رأى فيها: {واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} فلم يَنْجَع، فقال الله عز وجل لجبريل: «أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة فانحط جبريل عليه السلام وهو يقول: يا يوسفُ أتعملُ عملَ السفهاء وأنت مكتوبٌ في ديوان الأنبياء؟» وقيل: رأى تمثال العزيزِ، وقيل: إنْ كلَّ ذلك إلا خرافاتٌ وأباطيلُ تمجُّها الآذانُ وتردُّها العقول والأذهانُ ويلٌ لمن لاكها ولفّقها أو سمعها وصدّقها.{كذلك} الكافُ منصوبُ المحلِّ وذلك إشارةٌ إلى الإراءة المدلولِ عليها بقوله تعالى: {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ} أي مثلَ ذلك التبصيرِ والتعريفِ عرفناه برهاننا فيما قبل، أو إلى التثبيت اللازمِ له أي مثلَ ذلك التثبيتِ ثبتناه {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء} على الإطلاق فيدخل فيه خيانةُ السيِّد دخولاً أولياً {والفحشاء} والزنى لأنه مفْرِطٌ في القبح وفيه آيةٌ بينةٌ وحجةٌ قاطعةٌ على أنه عليه السلام لم يقع منه همٌّ بالمعصية ولا توجَّه إليها قط، وإلا لقيل: لنصرِفَه عن السوء والفحشاء، وإنما توجه إليه ذلك من خارجٍ فصرَفه الله تعالى عنه بما فيه من موجبات العفةِ والعصمةِ فتأمل. وقرئ {ليَصرِف} على إسناد الصرْف إلى ضمير الرب {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} تعليلٌ لما سبق من مضمون الجملةِ بطريق التحقيقِ، والمخلصون هم الذين أخلصهم الله تعالى لطاعته بأن عصمهم عما هو قادحٌ فيها، وقرئ على صيغة الفاعل وهم الذين أخلصوا دينهم لله سبحانه وعلى كلا المعنيين فهو منتظَمٌ في سلكهم داخلٌ في زمرتهم من أول أمره بقضية الجملةِ الاسميةِ لا أن ذلك حدث له بعد أن لم يكن كذلك فانحسم مادةُ احتمالِ صدورِ الهمِّ بالسوء منه عليه السلام بالكلية.
|